لقد تطلـّب إرسالُ رجل إلى سطح القمر أو مسبار إلى حلقات زُحل الكثير من البراعة. واقتضى الأمر اختراع تقنيات لم تكن موجودة مُسبقا. وإذا كُنا نجهل ذلك في معظم الحالات، فإن هذه التقنيات أحدثت ثورة في حياتنا اليومية.
احتفلت الـ"ناسا" يوم الأربعاء 1 أكتوبر 2008 بالذكرى الخمسين على تأسيسها. الـ"ناسا"، هي تلك الوكالة الأمريكية التي تـرسل رجالا ونساء وسواتل (أقمار صناعية) ومسبارات إلى الـفضاء...
شيء جميل، نعم. لكن ما الفائدة من الذهاب إلى الفضاء؟
في وقت الرّواد على الأقل، كانت الإجابة بديهية: "لنـُظهر أننا أقوى من الآخرين".
وإن كان الإنسان يحلم باستكشاف السماوات منذ القدم، فإن العسكريين كانوا أول من أرسلوه إليها في الواقع. فأبُ صاروخ القمـر ليس سوى النازي السابق، الألماني فيرنر فون براون، الذي أشرف في نهاية الحرب العالمية الثانية على برنامج صواريخ V2 المشؤومة، التي كانت سلاح الفرصة الأخيرة بالنسبة للنظام النازي.
وفي ألمانيا هاته التي كانت على حافة الانهيار، ظهرت أيضا أولى الطائرات النفاثة. وفور سحقهم للعدو المُشترك، انطلق الأمريكيون والسُّوفيات في مزاد جنوني لمعرفة من سينجح في الذهاب إلى أعلى الأعالي ومن سيكون الأسرع.
سباق التفوق على العدو
في البداية، كان الامتياز للرّوس: فقد أرسلوا أول قمر صناعي وأول رجل إلى الفضاء، كما قاموا بأول نشاط خارج المركبة الفضائية. بينما كانت "الناسا" تحاول تدارك الموقف... وسرعان ما تغير الوضع لتـَصدُق توقعات الرئيس الأمريكي، جون فيتزجيرالد كيندي، الذي كان قد وعد في عام 1962 أن رجلا أمريكيا سيحط على القمر قبل نهاية عقد الستينات.
في ذلك الوقت، كانت المسألة تتعلق بقدر الدولة وهيبتها: فإذا كان عـِلمُنا أفضل من علم عدونا، وتكنولوجيتنا أكثر كفاءة، وطيارونا أكثر شجاعة، فإن ذلك يُظهر بأن نظامنا السياسي أسمى من نظامه.
ناهيك عن أنه إذا ما وصل العدو إلى سطح القمر قبلنا، فقد يـُقيم فيه قاعدة صواريخ نووية موجهة صوب مُدُننا... نعم، هذا أيضا كان نوعا من التخيـُّلات التي أذكت روح رواد الفضاء.
ومنذ ذلك الحين، تغيرت الأمور والأزمنة. ففي عام 1975، تصافح رائدا فضاء، أمريكي وسوفياتي، بمناسبة الموعد الفضائي "أبولو-سويوز". واليوم، تتعايش في المحطة الفضائية الدولية كافة الجنسيات، باستثناء الصينية...
وبعد أن وعد الرئيس جورج بوش الإبن بأن أمريكا ستعود إلى القمر بحلول عام 2020، فهل ستنجح إمبراطورية الوسط في تجاوزها؟ وهل سيعيد التاريخ نفسه؟
سواتل، زجاجات إرضاع، ونظارات
في انتظار معرفة الجواب، لنتـذكر، نحن أبناء الأرض البسطاء، أن الفضل في تمكـُّننا مؤخرا من مشاهدة الصور الظافرة الحية للأبطال الصينيين في الفضاء، ومن الاتصال عبر الهاتف بمختلف مناطق العالم، ومن الوصول إلى هذه الدرجة العالية من الموثوقية في مجال التوقعات والتنبؤات الجوية (مع الاحترام الواجب للمُتشككين)، ومن قيادة سيارة تقول لك "أدر يسارا بعد مسافة 50 مترا"... الفضل في كل هذا يعود إلى الأقمار الصناعية.
فالخدمات التي تُقدمها لنا هذه السواتل باتت جزءا من حياتنا اليومية إلى حد كبير، لدرجةٍ جعلتنا ننسى هذا الأمر، خاصة وأن لا أحد يراها. لكن سبوتنيك، سلف كافة تلك الأقمار الصناعية، يكبر سنا بقليل وكالة الـ "نازا"!
وهذا ليس سوى الشيء القليل. فمن يُفكر مثلا في رواد الفضاء عندما يـُجهز زجاجة إرضاع لطفله؟ فمن أجل الاحتياجات الغذائية لرجال الفضاء، تم استخراج مُركزات فيتامينات خفيفة، اقتصادية ومنهضمة، من الأعشاب البحرية. واليوم، تُستخدم تلك المُركزات على نطاق واسع في المستحضرات الصناعية للرضع.
وبالنسبة للكبار، نجد الآن في السوق جيلا جديدا من النظارات الشمسية، التي لا تُخدش ولا تُكسر. وقد اشتق زجاجها مباشرة من واقيات وجه مغطسات الـ"ناسا"، لأن أشعة الشمس خارج الغلاف الجوي أقوى بكثير من أشعتها التي تدفئ شواطئنا، أيّا كان موقعها.
الأمن الجوي والسيارات النظيفة
في المجموع، تُسهل حياتنا اليومية، الفردية والجماعية، أكثرُ من 1500 تكنولوجيا فضائية. وبمناسبة احتفالها بعيد ميلادها الخمسين، أهدت الـ "ناسا" لنفسها إحصاءً لتلك التكنولوجيات على موقعها على الإنترنت، في شكل بيانات مُتحركة، مُقنعة وتعليمية في الآن نفسه.
وتكفي بضع نقرات لاكتشاف ما غيـّرته الوكالة في "حياتك" (بالإنجليزية)، سواء في بيتك أو في مدينتك. وهكذا، تعلم أن دهان المباني المضاد للحرائق مستمد من غطاء الدرع الحراري للمكوك الفضائي الذي يحميه من الحرارة الشديدة المتولدة من دخوله الغلاف الجوي.
وإذا كان سطح طُرقـنا المُعبدة ومدارج مطاراتنا مُخطط بأخاديد تسمح بإفراغ مياه الأمطار وتقليص خطر الانزلاق، فالفضل في ذلك يعود أيضا إلى وكالة الـ "ناسا"، فقد كانت أول من جرب هذه التقنية من أجل سلامة طائراتها الخاصة.
وقد أفادت هذه التجارب كثيرا مجال الطب أيضا. فقد وضعت نُظم مراقبة الوظائف الحيوية لمرضى العناية المُركزة لأول مرة في الستينات من أجل رواد الفضاء.
ثم هنالك خلايا الوقود. وإن لم تكن من اختراع الـ "ناسا"، بالتأكيد، بما أن المبدأ الذي تقوم عليه اكتُشف في عام ... 1839، فإن الفضل في استخداماتها الملموسة الأولى يعود إلى برامج الفضاء. وقد يصبح مُمكنا غدا، بفضل تلك الخلايا، قيادة سيارات هيدروجين نظيفة 100%.
كل هذا مُـجرد بداية...
وذلك دون أن ننسى، بطبيعة الحال، أن الـ "ناسا" أرسلت رجالا إلى القمر، وأنها سترسل في يوم ليس بالبعيد رجالا آخرين إلى المريخ، فقط للتحقق من وجود المياه التي اكتشفتها مؤخرا بعثة "فينيكس".
وفي انتظار ذلك، تستكشف أو استكشفت مسبارات الوكالة المناطق المحيطة بجميع كواكب النظام الشمسي، وأحيانا كافة مساحتها، بما فيها سواتل بعض منها مثل "تيتان" (أكبر أقمار زحل)، الذي قد يساعدنا على فهم ظهور الحياة على الأرض.
ومن يدري؟ ربما قد يعود الفضل للـ "ناسا" أيضا إذا ما صافحنا يوما ما مخلوقا فضائيا "إي تي"...